“دعائي” من المجهولين في الأرض المعروفين في السماء

هكذا هي الحياة؛ يعيش فيها أشخاص فريدون من نوعهم، يحملون نبلاً و نزاهةً وتواضعاً و صلاحاً و تعففاً،يعملون بصمت، و لا نكاد نشعر بهم،و عندما يرحلون يتركون فراغاً مؤلماً وحسرة في قلوب محبيهم وعارفيهم

موقع رهبویان قم الاخباری/دولی :بقلم:د.رعدجبارة☆
هكذا هي الحياة؛ يعيش فيها أشخاص فريدون من نوعهم، يحملون نبلاً و نزاهةً وتواضعاً و صلاحاً و تعففاً،يعملون بصمت، و لا نكاد نشعر بهم،و عندما يرحلون يتركون فراغاً مؤلماً وحسرة في قلوب محبيهم وعارفيهم . إنهم مجهولون في الأرض معروفون في السماء ،لا يهمهم منصب أو إعلام أو قشور دنيوية.. أحد هؤلاء إنسان نبيل متواضع خلوق ،يكاد يكون من جنس الأولياء إسمه
السيد محمود دعائي
من يعرفه حق المعرفة يتبادر الى ذهنه القول المأثور عن المعصوم ع: (إن الله أخفى أولياءه بين عباده) هذا الرجل كان ثقة الامام الخميني ورفيق مسيرته منذ انطلاق الثورة في اوائل الستينات، وكان مندوب الإمام الخميني الخاص لدى السلطات الرسمية العراقية طيلة فترة اقامة الامام الخميني في النجف الاشرف بدءاً من عام ۱۹۶۴ حتى ۱۹۷۸ ،وكان الإمام الفقيد يكلّفه بأموره الخاصة وهو بمثابة مندوبه الخاص ولسانه الناطق أيام هجرته في العراق، حتى عندما طلب الرئيس الأسبق احمد حسن البكر تخصيص اذاعة عراقية باللغة الفارسية تبث برامجها ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي ، أوفد مندوباً خاصا لبيت الامام في شارع الرسول بالنجف الأشرف وطلب من الإمام الراحل ان يعيّن شخصاً ثقة كامل الصلاحية ليكون مديراً ومسؤولاً عن تلك الاذاعة، فقرر الامام آنذاك اختيار السيد محمود دعائي لهذه المهمة.فكان يسافر السيدمحمود فجر كل يوم من النجف الأشرف الى بغداد حاملا معه المواد والمقالات و النداءات الموجهة للشعب الايراني،من قبل قائد الثورة الاسلامية.وفعلاً كان هذا الرجل اهلاً لهذا العمل الذي كلّفه به الإمام لفضح ممارسات الشاه وقمعه الشعب الايراني وعمالته لامريكا و الغرب والكيان الصهيوني.
و بعد انتصار الثورة الاسلامية قرر الامام الراحل تعيينه كأول سفير للجمهورية الاسلامية في العراق.وقام بتسليم رد الامام الخميني على رسالة البكر الخطية له،وفي ختامها(والسلام على من اتبع الهدى).طبعا بعد فترة قصيرة ساءت العلاقات بين بغداد وطهران نتيجة طيش صدام فعاد السيد محمود دعائي الى ايران وعيّنه الإمام الخميني ممثلاً خاصا له في مؤسسة “اطلاعات” الاعلامية الكبرى. و بعد تعيينه فكّر دعائي بإطلاق صحيفة باللغة العربية وطرح اقتراحه هذا، و انعقد اجتماع آنذاك في مكتبه حضرتُه وطرحت افكاراً عديدة واقتراحات متنوعة على السيد دعائي و كان يصغي إليّ باهتمام ودقة ويسجل ملاحظاته .ولكن صدرت (كيهان العربي)آنذاك فتوقفت مؤسسة اطلاعات عن مشروعها.
وعندما جرت اول انتخابات لمجلس النواب الايراني(مجلس الشورى) طُلب منه أن يرشح نفسه ،وفعلاً فاز في كل الانتخابات النيابية المتتابعة فكان عضوا في كل المجالس النيابية المتوالية المنتخبة منذ تاسيس الجمهورية الاسلامية حتى البرلمان قبل الأخير الذي امتنع عن الترشح له.
وخلال فترة عضويته في مجلس الشورى الاسلامي لم يستلم السيد دعائي ريالاً واحداً من مرتباته وطلب من قسم الحسابات في البرلمان دفعها للفقراء والايتام المحتاجين مباشرة، وكان يقول :إن النائب هو خادم للشعب ولا ينبغي ان يأخذ إزاء خدمته راتباً.
و مرة شاهدتُه في مترو طهران المزدحم جداً،فكان رحمه الله واقفاً محشوراً كغيره من آلاف المسافرين الذين يغص بهم المترو، وسط تدافع الركاب، مادّاً يده الى القضيب الحديد في السقف ليتفادى شدة التدافع والزحام، مع زيه العلمائي وعمامته، و وجهه يتصبّب عرقاً فقمتُ له لكي يجلس في مكاني واقتربت منه بصعوبة بالغة وسلمت عليه فرفض الجلوس و واجهني بابتسامته المعهودة وتواضعه الجم و رد السلام علي بحفاوة وقال لي: سررت برؤيتك اين تعمل الان؟ فقلت له :دبلوماسيا في الدوحة منذ ٨سنوات،ثم قلت له:ياسيدنا ليت باقي المسؤولين يأتون الى وسط الناس هكذا مثلك و يطلعون على أحوالهم و يلمسون معاناتهم و ينحشرون في المترو وقوفاً عسى أن يضعوا حلاً لازمة المواصلات فقال( نعم فعلاً، ليتهم يأتون!) وأطرق برأسه مبتسماً والعرق يتصبب من وجهه بغزارة.
ويكفي لمعرفة نزاهة هذا الرجل أن أخ زوجته هو جارنا، و يعمل سائق تكسي بسيارة قديمة متهالكة ويسكن في شقة بسيطة بعمارة قديمة بلا مصعد وأهل زوجته عراقيوا الأصل ،ولم يستفد صهره من منصبه شروى نقير، ولم يستغل قربه منه بمقدار رأس إبرة،بل يعمل كأي سائق سيارة أجرة.
واليوم توفي السيد دعائي عن عمر ناهز ۸۱ عاما مأسوفا عليه من كل أطياف الساحة السياسية الايرانية[ الاصلاحيون والاصوليون] والكل يقولون: “اللهم إنّا لا نعلم منه الا خيراً “.
رحمة الله عليه
☆باحث ودبلوماسي سابق.